كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَصْلٌ:
وَفِي الْجُمْلَةِ فَدَلَالَةُ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ هُوَ مِنْ الدَّلَالَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمَشْهُورَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ القرآن وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ كَلَامَ اللَّهِ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْأَحَادِيثُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي يَحْكِيهَا الرَّسُولُ عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتعالى كَقوله: «يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا» الْحَدِيثَ وَكَقوله: «مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ فِي كَوْنِهَا كَلَامَ اللَّهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ لَهُ نِسْبَتَانِ: نِسْبَةٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَنِسْبَةٌ إلَى الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ. فَهُوَ يَتَفَاضَلُ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَتَيْنِ وَبِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ أَيْضًا مِثْلَ الْكَلَامِ الْخَبَرِيِّ لَهُ نِسْبَتَانِ: نِسْبَةٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمُخْبِرِ وَنِسْبَةٌ إلَى الْمَخْبَرِ عَنْهُ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ. ف {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} و{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} كِلَاهُمَا كَلَامُ اللَّهِ وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَكِنَّهُمَا مُتَفَاضِلَانِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ. فَهَذِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَبَرُهُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَتِهِ الَّتِي يَصِفُ بِهَا نَفْسَهُ وَكَلَامَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ. وَهَذِهِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ عَنْ بَعْضِ خَلْقِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ وَيَصِفُ بِهِ حَالَهُ وَهُمَا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مُتَفَاضِلَانِ بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامَيْنِ. أَلَّا تَرَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ هُوَ كُلُّهُ كَلَامُهُ لَكِنَّ كَلَامَهُ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ رَبَّهُ أَعْظَمُ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْجَمِيعُ كَلَامُهُ فَاشْتِرَاكُ الْكَلَامَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ لَا يَمْنَعُ تَفَاضُلَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَتْ النِّسْبَتَانِ أَوْ أحداهُمَا تُوجِبُ التَّفْضِيلَ أَوْ لَا تُوجِبُهُ. فَكَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ وَالْخُطَبَاءُ وَالشُّعَرَاءُ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ واحدًا وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْكَلَامِ الْمَعَانِي فَقَطْ أَوْ الْأَلْفَاظُ فَقَطْ أَوْ كِلَاهُمَا أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا فَلَا رَيْبَ فِي تَفَاضُلِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي مِنْ الْمُتَكَلِّمِ الْوَاحد فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ اتِّفَاقِ الْكَلَامَيْنِ فِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِمَا وَأحد لَا يُوجِبُ تَمَاثُلُهُمَا مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ. فَتَفَاضُلُ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَوْ إنْشَاءً أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ فَلَيْسَ الْخَبَرُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَالْخَبَرِ الْمُتَضَمِّنِ لِذِكْرِ أَبِي لَهَبٍ وَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ وَإِنْ كَانَ هَذَا كَلَامًا عَظِيمًا مُعَظَّمًا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالْمَأْمُورَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَالزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَتْهُ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا وَمَا يَحْصُلُ مَعَهُ فَسَادٌ عَظِيمٌ كَالْأَمْرِ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ القرآن فِي التَّمْرِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرَانِ وَاجِبَيْنِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَالْأَمْرِ بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَامِلِ وَإِيتَائِهَا أَجْرَهَا إذَا أَرْضَعَتْ.
وَلِهَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى تَفَاضُلِ أَنْوَاعِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَقالوا: إنَّ إيجَابَ أحد الْفِعْلَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ إيجَابِ الْآخَرِ وَتَحْرِيمُهُ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْآخَرِ فَهَذَا أَعْظَمُ إيجَابًا وَهَذَا أَعْظَمُ تَحْرِيمًا وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ نَازَعُوا فِي ذَلِكَ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ فَقالوا: التَّفَاضُلُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ لَكِنْ فِي مُتَعَلَّقِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالْجُمْهُورُ يَقولونَ: بَلْ التَّفَاضُلُ فِي الْأَمْرَيْنِ وَالتَّفَاضُلُ فِي الْمُسَبِّبَاتِ دَلِيلٌ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْأَسْبَابِ وَكَوْنُ أحد الْفِعْلَيْنِ ثَوَابُهُ أَعْظَمُ وَعِقَابُهُ أَعْظَمُ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ وَالنَّهْيَ عَنْهُ أَوْكَدُ وَكَوْنُ أحد الْأَمْرَيْنِ وَالنَّهْيَيْنِ مَخْصُوصًا بِالتَّوْكِيدِ دُونَ الثَّانِي مِمَّا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ عَاقِلٌ وَلَوْ تَسَاوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَامْتَنَعَ الِاخْتِصَاصُ بِتَوْكِيدِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ وَالتَّفْضِيلَ مُتَضَادَّانِ. وَجُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَإِطْلَاقُ ذَلِكَ هُوَ قول جَمَاهِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَهُوَ قول الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْقَاضِي يَعْقُوبَ البرزبيني وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَلْوَانِيِّ وأبي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِمْ لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُفَسِّرُ التَّفَاضُلَ بِتَفَاضُلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ الْنُّفَاةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ نَفْسَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْبُغْضَ وَالْإِرَادَةَ وَالْكَرَامَةَ وَالطَّلَبَ وَالِاقْتِضَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي تَتَفَاضَلُ وَتَتَفَاضَلُ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا. وَنَفْسُ حُبِّ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ يَتَفَاضَلُ كَمَا قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}. وَنَفْسُ حُبِّ اللَّهِ لَهُمْ يَتَفَاضَلُ أَيْضًا فَإِنَّ الْخَلِيلَيْنِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّنْ سِوَاهُمَا وَبَعْضُ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ بَعْضٍ وَالْقول بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَحَبُّ إلى مِنْ هَذَا مَشْهُورٌ وَمُسْتَفِيضٌ فِي الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَكَلَامِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ كَقول بَعْضِ الصَّحَابَةِ: لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَفَعَلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الصَّفِّ وَهُوَ مَشْهُورٌ ثَابِتٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَكَوْنُ هَذَا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا هُوَ دَاخِلٌ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَبَعْضِ الْأَشْخَاصِ عَلَى بَعْضٍ. وَبَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَكَّةَ: «وَاَللَّهِ إنَّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ. وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْك لَمَا خَرَجْت» قال التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ. وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ عَلَى حُبِّ غَيْرِهِ وَبُغْضِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «لَا أحد أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسِهِ. وَلَا أحد أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ».
وقال: «لَا أحد أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ» وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وقال تعالى: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ تَفَاضُلُ الْمَأْمُورَاتِ: فَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُ الْمَنْهِيَّاتِ شَرٌّ مِنْ بَعْضٍ وَحِينَئِذٍ فَطَلَبُ الْأَفْضَلِ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ أَكْمَلُ مِنْ طَلَبِ الْمَفْضُول وَالطَّالِبُ إذَا كَانَ حَكِيمًا يَكُونُ طَلَبُهُ لِهَذَا أَوْكَدَ. فَفِي الْجُمْلَةِ مِنْ الْمُسْتَقَرِّ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ يَلْحَقُهُمَا التَّفَاضُلُ مِنْ جِهَةِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ وَالْمَأْمُورِ بِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَخْبَرُ بِهِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ كَانَ الْخَبَرُ بِهِ أَفْضَلَ وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَفْضَلَ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ أَفْضَلَ. وَلِهَذَا كَانَ الْخَبَرُ بِمَا فِيهِ نَجَاةُ النُّفُوسِ مِنْ الْعَذَابِ وَحُصُولُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ أَفْضَلَ مِنْ الْخَبَرِ بِمَا فِيهِ نَيْلُ مَنْزِلَةٍ أَوْ حُصُولُ دَرَاهِمَ وَالرُّؤْيَا الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَفْضَلَ الْخِبْرَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ الرُّؤْيَا الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَدْنَاهُمَا وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً. وَإِذَا قَدَرَ أَمِيرَانِ أَمَرَ أحدهُمَا بِعَدْلِ عَامٍّ عَمَّرَ بِهِ الْبِلَادَ وَدَفَعَ بِهِ الْفَسَادَ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ أَعْظَمَ مِنْ أَمْرِ أَمِيرٍ يَعْدِلُ بَيْنَ خَصْمَيْنِ فِي مِيرَاثِ بَعْضِ الْأَمْوَاتِ. وَأَيْضًا فَالْخَبَرُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِالْمَخْبَرِ بِهِ وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ طَلَبًا وَإِرَادَةً لِلْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إرَادَةَ فِعْلِ الْأَمْرِ وَاَللَّهُ تعالى أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَلَكِنْ أَعَانَ أَهْلَ الطَّاعَةِ فَصَارَ مُرِيدًا لَأَنْ يَخْلُقَ أَفْعَالَهُمْ وَلَمْ يَعْنِ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَخْلُقَ أَفْعَالَهُمْ. فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ الْخِلْقِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ وَأَمَّا الْإِرَادَةُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّ فِعْلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَرْضَاهُ إذَا فُعِلَ وَيُرِيدُ مِنْ الْمَأْمُورِ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَأْمُورٌ فَهَذِهِ لابد مِنْهَا فِي الْأَمْرِ. وَلِهَذَا أَثَبَتَ اللَّهُ هَذِهِ الْإِرَادَةَ فِي الْأَمْرِ دُونَ الْأُولَى. وَلَكِنْ فِي النَّاسِ مِنْ غَلَطٍ فَنَفَى الْإِرَادَةَ مُطْلَقًا وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْإِرَادَةِ الْخِلْقِيَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْأَمْرِيَّةِ. وَالقرآن فَرَّقَ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ فَقال فِي الْأُولَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وَقال نُوحٌ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وَقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وَقال: {وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّهِ} وَلِهَذَا قال الْمُسْلِمُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَقال فِي الثَّانِيَةِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَقال: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وَقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}
وَقال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لابد فِي الْأَمْرِ مِنْ طَلَبٍ وَاسْتِدْعَاءٍ وَاقْتِضَاءٍ سَوَاءٌ قِيلَ: إنَّ هُنَاكَ إرَادَةً شَرْعِيَّةً وَأَنَّهُ لَا إرَادَةَ لِلرَّبِّ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ سِوَاهَا كَمَا تَقوله الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَوْ قِيلَ: لَا إرَادَةَ لِلرَّبِّ إلَّا الْإِرَادَةُ الْخِلْقِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ الَّتِي يُقال فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ إرَادَتَهُ عَيْنُ نَفْسِ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَأَنَّ إرَادَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مَا يُوجَدُ مِنْ إيمَانٍ وَكُفْرٍ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يُوجَدُ سَوَاءٌ كَانَ إيمَانًا أَوْ كُفْرًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ لَهَا أَثَرٌ فِي وُجُودِ مَقْدُورِهِ وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَأَسْبَابٌ يَخْلُقُ بِهَا وَلَا لِلَّهِ حِكْمَةٌ يَخْلُقُ وَيَأْمُرُ لِأَجْلِهَا كَمَا يَقول هَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ رَأْسُ الْجَبْرِيَّةِ هُوَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ بَعْضِهِ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَبَعْضِ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَاقَضُوا الْقَدَرِيَّةَ الْمُعْتَزِلَةَ مُنَاقِضَةً أَلْجَأَتْهُمْ إلَى إنْكَارِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقول بِبَعْضِ ذَلِكَ يَتَنَاقَضُ وَقَدْ يَثْبُتُ أحدهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْمَعْنَى.
وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ فَيُثْبِتُونَ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ وَالْإِرَادَةَ الْخِلْقِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ الشَّامِلَةَ لِكُلِّ حَادِثٍ وَالْإِرَادَةَ الْأَمْرِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُتَنَاوِلَةَ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ وَهُوَ مَا أَمَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ مَا يَنْفَعُ الْعِبَادَ وَيُصْلِحُهُمْ وَيَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ النَّافِعَةُ فِي الْمَعَادِ الدَّافِعَةُ لِلْفَسَادِ. فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ الْأَمْرِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِلَهِيَّتِهِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِرُبُوبِيَّتِهِ كَمَا أَنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ الْخِلْقِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ. وَلِهَذَا كَانَ مَنْ نَظَرَ إلَى هَذِهِ فَقَطْ وَرَاعَى هَذِهِ الْخِلْقِيَّةَ الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ دُونَ تِلْكَ يَكُونُ لَهُ بِدَايَةٌ بِلَا نِهَايَةٍ فَيَكُونُ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا يَحْصُلُ لَهُمْ بَعْضُ مُطَالِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِاسْتِعَانَتِهِمْ بِاَللَّهِ إذْ شَهِدُوا رُبُوبِيَّتَهُ وَلَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إذْ لَمْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ. وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ دُونَ تِلْكَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ وَقَدْ يُرَاعَى الْأَمْرُ؛ لَكِنَّهُ يَكُونُ عَاجِزًا مَخْذُولًا حَيْثُ لَمْ يَشْهَدْ رُبُوبِيَّةَ اللَّهِ وَفَقْرَهُ إلَيْهِ لِيَكُونَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ بَرِيًّا مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ. فَهَذَا قَدْ يَقْصِدُ أَنْ يَعْبُدَهُ وَلَا يَقْصِدَ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَهِيَ حَالُ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ خَالِقًا أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَلَا مُرِيدًا لِلْكَائِنَاتِ وَلِهَذَا قال أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني: إنَّمَا يَعْجَبُ بِفِعْلِهِ الْقَدَرِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَرَى أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِفِعْلِهِ. فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِهِمْ وَأَنَّ لِلَّهِ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ يَعْجَبُونَ بِهَا؟ أَوْ كَمَا قال. وَالْأَوَّلُ قَدْ يَقْصِدُ أَنْ يَسْتَعِينَهُ وَيَسْأَلَهُ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَبْرَأَ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ وَلَكِنْ لَا يَقْصِدُ أَنْ يَعْبُدَهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ وَلَا يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ وَأَنَّهُ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بَلْ يَنْسَلِخُ مِنْ الدِّينِ أَوْ بَعْضِهِ لاسيما فِي نِهَايَةِ أَمْرِهِ. وَهَذِهِ الْحَالُ إنْ طَرَدَهَا صَاحِبُهَا كَانَ شَرًّا مِنْ حَالِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ بَلْ إنْ طَرَدَهَا طَرْدًا حَقِيقِيًّا أَخْرَجَتْهُ مِنْ الدِّينِ خُرُوجَ الشَّعْرَةِ مِنْ الْعَجِينِ وَهِيَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ. وَأَمَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُحَقِّقُ قوله: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَيَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَلَا يُوَافِقُ أَمْرَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَكُلُّ قَاصِدٍ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ فَهُوَ مَصْدُودٌ مِنْ مَآرِبِهِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَيَعْبُدُ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مُؤْمِنًا بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ: بِقَدْرِهِ وَشَرْعِهِ فَيَسْتَعِينُ اللَّهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهَا وَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَأَنَّ لِلَّهِ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ عَلَى خَلْقِهِ وَأَنَّ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ حِكْمَةً بَالِغَةً وَرَحْمَةً سَابِغَةً. وَهَذِهِ الْأُمُورُ أُصُولٌ عَظِيمَةٌ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْخَبَرَ الصَّادِقَ يَتَضَمَّنُ جِنْسَ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ جِنْسَ الطَّلَبِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. ثُمَّ هَلْ مَدْلُولُ الْخَبَرِ جِنْسٌ مِنْ الْمَعَانِي غَيْرَ جِنْسِ الْعِلْمِ وَمَدْلُولُ الْأَمْرِ جِنْسٌ مِنْ الْمَعَانِي غَيْرَ جِنْسِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقول ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ مِثْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ؟ أَوْ الْمَدْلُولُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ؟ كَمَا يَقوله جُمْهُورُ نُظَّارِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرَ. فَيَقولونَ: إنَّ القرآن كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيَقولونَ: إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُخَالِفُونَ ابْنَ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي ذَيْنك الْأَصْلَيْنِ. وَلِهَذَا يُقال: إنَّهُ لَمْ يُوَافِقْهُ أحد مِنْ الطَّوَائِفِ عَلَى مَا أحدثَهُ مِنْ الْقول فِي الْكَلَامِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ قوله خَيْرًا مِنْ قول الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَطَوَائِفِ النُّظَّارِ فَلَا يَقولونَ بِقول الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا الْكُلَّابِيَة كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فُقَهَاءُ الطَّوَائِفِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْكُتُبِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ لَهَا مَعَانٍ: سَوَاءٌ سُمِّيَ طَلَبًا أَوْ إرَادَةً أَوْ عِلْمًا أَوْ حُكْمًا أَوْ كَلَامًا نَفْسَانِيًّا. وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهَا فَلَيْسَ عِلْمُنَا بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ كَعِلْمِنَا بِحَالِ أَبِي لَهَبٍ. وَلَيْسَ الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِنَا إذَا أُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَالطَّلَبِ الْقَائِمِ بِنَا إذَا أُمِرْنَا بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وَإِخْرَاجِ الدِّرْهَمِ مِنْ الزَّكَاةِ. فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعَانِيَ الْكَلَامِ قَدْ تَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهَا كَمَا قَدْ تَتَمَاثَلُ وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا صِيغَةُ الْأَمْرِ- سَوَاءٌ سُمِّيَتْ طَلَبًا أَوْ اقْتِضَاءً أَوْ اسْتِدْعَاءً أَوْ إرَادَةً أَوْ مَحَبَّةً أَوْ رِضًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ- فَإِنَّهَا مُتَفَاضِلَةٌ بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ النَّفْسَانِيَّةِ فَهِيَ مُتَفَاضِلَةٌ فِي نَفْسِهَا بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ. فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ تَفَاضُلِ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ واحدًا. وَهُوَ أَيْضًا مُتَفَاضِلٌ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلَّمُ فِيهِ واحدًا كَمَا قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَكْلِيمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَفْضَلُ مِنْ تَكْلِيمِهِ بِالْإِيحَاءِ وَبِإِرْسَالِ رَسُولٍ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى عَلَيْهِ السلام أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا وَقال: {إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} وَقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} وَاَلَّذِي يَجِدُ النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحد تَتَفَاضَلُ أَحْوَالُهُ فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ بَلْ وَفِي الْكَلَامِ الْوَاحد يَتَفَاضَلُ مَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعَانِي وَمَا يَقُومُ بِلِسَانِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ بِحَيْثُ قَدْ يَكُونُ إذَا كَانَ طَالِبًا هُوَ أَشَدُّ رَغْبَةً وَمَحَبَّةً وَطَلَبًا لِأحد الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ لِلْآخَرِ وَيَكُونُ صَوْتُهُ بِهِ أَقْوَى وَلَفْظُهُ بِهِ أَفْصَحَ وَحَالُهُ فِي الطَّلَبِ أَقْوَى وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا؛ وَلِهَذَا يَكُونُ لِلْكَلِمَةِ الْواحدة مِنْ الْمَوْعِظَةِ بَلْ لِلْآيَةِ الْواحدة إذَا سُمِعَتْ مِنْ اثْنَيْنِ مِنْ ظُهُورِ التَّفَاضُلِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تَمْثِيلٍ. وَكَذَلِكَ فِي الْخَبَرِ قَدْ يَقُومُ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَتَصَوُّرِ الْمَعْلُومِ وَشُهُودِ الْقَلْبِ إيَّاهُ بِاللِّسَانِ مِنْ حُسْنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ لَفْظًا وَصَوْتًا مَا لَا يُقَارِبُهُ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ غَيْرِهِ. فَهَذَا نَوْعُ إشَارَةٍ إلَى قول مَنْ يَقول بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ مُوَافِقًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةُ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ تَقول: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُفَضَّلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لِهَؤُلَاءِ فِي تَأْوِيلِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي التَّفْضِيلِ قولان:
أحدهما:أَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ فِي مُتَعَلَّقِهِ مِثْلَ كَوْنِ بَعْضِهِ أَنْفَعَ لِلنَّاسِ مِنْ بَعْضٍ لِكَوْنِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ أَوْ الْعَمَلِ بِهِ أَخَفَّ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي الْأَجْرِ وَتَأَوَّلُوا قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} أَيْ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ لَا أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا خَيْرٌ مِنْ تِلْكَ. وَهَذَا قول طَائِفَةٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري قال. نَأْتِ بِحُكْمِ خَيْرٍ لَكُمْ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ: إمَّا فِي الْعَاجِلِ لِخِفَّتِهِ عَلَيْكُمْ وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ لِعِظَمِ ثَوَابِهِ مِنْ أَجْلِ مَشَقَّةِ حَمْلِهِ.